الشارع سلاح ذو حدين – غالب سعد – الأردن

0 506

العالم الآن – دَرَجَ مفهوم ” الشارع ” في المنطقة العربية منذ منتصف القرن الماضي، كتعبير عن موقف وحركة الجماهير، إلاّ أنه في الواقع، كان أداةً سلطوية بامتياز، تحتكرها الأحزاب الحاكمة او الأجهزة المختصة لحشد الناس خلف الزعيم في مواجهة خصومة السياسيين في الداخل والخارج، وغير ذلك، لم يكن لأحد الحق باستخدام الشارع للتعبير عن رأي مخالف لما تراه السلطة، ولكن منذ أحداث الجنوب التونسي نهاية عام 2010، وإقدام ( البوعزيزي ) على احراق نفسه غضباً واحتجاجاً، وما تبع ذلك من أحداث في مصر وليبيا واليمن والعراق وسوريا، دخل الشارع العربي في حقبة جديدة من الاستخدام ولم يخرج منها حتى الآن، لا حاجة للتذكير بتفاصيل ما حصل فيها أو التكهن بما سيحصل، لأن وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي تكفلت بالمطلوب، ومهما حاولنا تفهم بعض المبررات او افتراض حُسن النوايا، فان ألأحداث والنتائج كانت مرعبة، تُدمي القلب وتؤرق الضمير، وتستدعي الأسف على الأرواح والممتلكات الخاصة والعامة والبنى الأساسية ووحدة الشعب والوطن وسمعته الدولية، بإختصار، صراعات عبثية أي كانت الدوافع ، ظن أطرافها انهم سَيحسنون من حاضرهم او سيحافظون عليه على الأقل، فإذا بهم يخسرون الحاضر والماضي وحتى المستقبل.

إن تواتر اللجوء للشارع على هذا النطاق الواسع والمؤسف، يوحي بأننا أمام ظاهرة تستحق الإهتمام وتستدعي الحذر، فهي مزيج من إهتمامات الناس وهمومهم، الحقيقي منها والإفتراضي، يقابلها سلةُ من المفاسد وعيوب الأداء، فيها المقصود ومنها العفوي ، وبين هذا وذاك تتدخل الطبيعة البشرية، العابرة للأجناس والمهن والحدود والعواصم، تفتش في أي شارع عن حل لمشاكلها، وحين لا تجد جواباً او إستجابة، ترفع الصوت وتتعمد ازعاج من لا يسمع، وفي غياب التعقل ولغة الحوار تحضر الجهالة والحمق، وقد تقع الجريمة المركبة بحق الوطن ولا ينجو منها لا الطالب ولا المطلوب ، هنا يصبح درهم الوقاية خير من قنطار علاج، ولا وقاية تعادل الحكمة، ولا حكمة أثمن من استخلاص العبر وأخذ الدروس من تجارب الآخرين، الذين إكتووا بلهيب الشارع، والعياذ بالله، هذه وصفة السلامة ليأخذ بها كل عاقل، كبيراً او صغيراً، أفراداً ودولاً ، مؤسسات أوجماعات.

لشرح هذه الحكمة بموضوعية واختصار، تكون البداية من تعثر بناء الدولة العصرية على امتداد الوطن العربي، وفشل الدول القائمة، بحكوماتها وشعوبها أن تتقن ما تعمل بشكل عام، وبشكل خاص الفشل في تنظيم وتـأطير الجماهيري، الا في حالات حزب السلطة او سلطة الحزب، ويبدو ان أدوات التأطير القائمة من برلمانات ومحليات وأحزاب ومنظمات مجتمع مدني وغيرها، ما زالت بعيدة عن بلوغ الهدف، ولم تجد من يضعها على الطريق او يحاسبها او يزيحها من الطريق، والنتيجة أن فراغاً تنظيمياً واسعاً وترهلاً وإنحرافاً خطيراً في الأداء، وحالة من الإحتقان والتوتر حصلت على إمتداد المنطقة العربية، فحاولت تيارات الاسلام السياسي إستغلالها وملء الفراغ، إستناداً على المخزون الثقافي والتاريخي والديني في المنطقة، ولكنها فشلت هي ألأخرى في اقناع المجتمع، الذي رفض في الغالب، الخلط بين الدين والسياسة، تماما كما سبق ان رفض في الماضي صيغاً أخرى في التعبئة والتنظيم كفكرة التحديث من خلال الأفكار الشيوعية، على سبيل المثال.

فشلت التشكيلات الحزبية بأنواعها في تأطير الجماهير او دعم الأداء البرلماني أو المساهمة في انتاج نظم سياسية فاعلة ومستقرة، فاستمر الفراغ التنظيمي وظهر ضعف الدوله وسوء إدارتها، واحتدمت الصراعات الإجتماعية والسياسية، وساد الشعور باليأس والإحبات وانسداد الأفق، واتسعت شريحة المواطنين ذات المطالب المحقة والملحّة أحياناً، ولم تجد الأُطر المناسبة لتمثيلها واستيعابها أو تلبية إحتياجاتها، فلجأت الى الشوارع والميادين تصرخ لتُسمِع صوتها، دون ان تعرف أحيانا كيف ولماذا ولمن تتوجه بالنداء، وهو سلوك في الغالب عفوي إنفعالي يجري دون خبرة كافية لإدارته أو تقدير عواقبه، وفي مثل هذه الحالات ليس هناك ضمانة ان يبقي الشارع لهذه الفئة، حسنة النية إفتراضاً، فمن المرجح بل من المؤكد أن فئات أخطر وأكثر حرفية تنتظر الفرصة للوصول الى الشارع نفسه، وقد تكون ذات أجندات خاصة فئوية أو حزبيه، خارجية أو مشبوهة، وهي التي في العادة تقوم برفع سقف المطالب وإلهاب المشاعر والإستفزاز والتخريب، وتخلط الحابل بالنابل.

ومن الطبيعي أن تكون الدولة حاضرة في الشارع أيضا لتقوم بواجبها في حفظ الأمن والنظام والمحافظة على سلامة المواطنين وممتلكاتهم ومصالحهم، وإذا أرادت يمكنها إستثمار المناسبة للتواصل المباشر مع هموم مواطنيها وإهتماماتهم أو قراءة المشهد الإجمالي للشارع بدون تجميل او تضليل، من هنا تأتي ضرورة فرز المواقف غثها من سمينها، وأهمية تحديد المطالب المحقة بدقة وواقعية وابراز مشروعيتها وتوجيهها للجهة المعنية بالاسلوب الحضاري المناسب، بما يساعد على تحسين فرص ألإستماع إليها وتلبيتها، اما الفئات المتسللة العابثة التي لا تقيم وزناً لدولة او نظام او حقوق، فالقانون وأدواته العادلة كفيلة بالتعامل معها، وليس لأحد غير الدولة ان يدعي إمتلاك الشارع أو جزء منه، او شرعية تنظيم وإدارة شيء من الشأن العام، او شعبية او عزوة او فزعة قادرة على إحداث التغيير، ولا تغيير غير االمتوافق عليه، ولا لأحد فرض برامج أو أجندات خاصة تحت اي مسمى، واذا حصل كما حصل في بعض الدول العربية، فهو تقصير من الدولة ذاتها ، ونقص في الإستعداد أو في الجرأة او القدرة على إدارة الأزمات، وهو ما سمح ويسمح للشارع ان يتحول إلى حفرة كبيرة تبتلع الدولة والمتنافسين عليها، فاذا كان للدولة أن ترفض، وهذا من حقها، تطاول الشارع عليها أو على احد رموزها، او اي إستخدامه خارج القانون، فإن عليها، وهذا من واجبها، الإستماع جيدا لمطالب المواطنين المححقة ومعالجتها بالشكل المناسب، حتي تبقى مُمْسِكة بزمام الأمور وسيدة الموقف كما يجب، وإلا، لا أحد يمكنه الوثوق بعواقب اللجوء الى الشارع، او الخطأ في إستعماله أو التعامل معه، لأنه سلاح ذو حدين.

يستطيع الاردنيون من بين العرب، ان يتفاخروا بوعيهم وحكمة قيادتهم وكفاءة اجهزتهم، وكيف استطاعوا إجتاز ثماني سنوات عاصفة من الربيع العربي، مثقلة بالتحديات السياسية والأمنية والاقتصادية، دون ان يقعوا في شراكها، بل تعلموا منها واستخلصوا اثمن الدروس والعبر، وقد نجحوا باقتدار في توظيفها للحفاظ على السلم الأهلي، وتطويق محاولات التأثير والاختراق المستمرة، ولا يحتاج الوضع القائم الى جهد استثنائي، حتى يدرك الجميع ان المهمة لم تكتمل بعد، وان الثقة بالنفس وبالدولة وقدراتها، يجب ان تبقى في أوجها، وان يبقى الإنتباه مركزاً على التطورات القريبة والبعيدة بيننا ومن حولنا، وان يتكاتف الجميع لضبط ايقاع حراكنا وحركتنا الداخلية، على ضوء تجارب الآخرين في التعامل مع الشارع، التي اثبتت خطأ الركون الى المسلمات والمقاربات التقليدية او الرهان على الوعود او حتى التعهدات، وان يكون رهاننا الوحيد والمضمون، هو إلتفاف الأردنيين جميعا، حول قيادتهم ووطنهم، واستعداد الجميع كل من موقعه، لسد الثغرات بالعمل الجاد المتقن، على اساس الكفاءة والمسؤولية..

رابط مختصر:
مقالات ذات الصلة

اترك رد