قصور الجامعة العربية والحلقة المفقودة – د. غالب سعد – الأردن

0 386

العالم الآن – إنتهت أمس أعمال مؤتمر القمة العربية في تونس، وقد تعمدت الكتابة بعد المؤتمر، مع يقيني، أن لا فرق بين الكتابة قبل القمة العربية أو بعدعا، ولا تندرج ملاحظتي هذه، في حملة الهجوم، غير المبرر على مؤسسة الجامعة، ممثلةً في الأمانة العامة، والذي ينطبق عليه المثل العربي، ” الي ما بقدر على لحمار بعض البرذعة ” فالجامعة ما هي إلّا وعاء تنظيمي سلبي ومحايد، يخضع في شكله ومضمونه لما تقرره الدول العربية، والدول المتنفدة منها بشكل خاص، فالجامعة العربية، التي يستعرض البعض عضلاته بالتهجم عليها، لا تمتلك أي إرادة مستقلة ولا تستطيع تحقيق أي أهداف لا تريدها وتدعمها الدول الأعضاء، وبالتالي ليس من المنطق ولا الإنصاف توجيه أي لوم أو إنتقاد لها، لا في انظمتها ولا في اشخاصها ولا في قراراتها، لأن كل ما في الجامعة، أو ما يبدو أنه صادر عنها، هو من صنع الدول الأعضاء، أو بشكل أدق، محصلة ميزان القوى بينها ، وتجسد لمصاالح الدولة أو مجموعة الدول المهيمنة على عمل الجامعة، حسب المرحلة، وحتى لا أبقى في إطار العموميات، غير المقبولة ممن عمل لأكثر من ثلاثين عاماً فيها، وتعامل مع أهم ملفاتها، وعاصر أربعة من أمنائها العامين، وشارك في عشرات من المجالس، على مستوى القمة والوزراء والمندوبين، لا بد من الدخول في بعض التفاصيل من واقع التجربة، دون الإخلال بقواعد المهنة وأخلاقياتها، حتى بعد الخروج على التقاعد.

تكمن مشكلة الجامعة العربية بإفتقادها لعنصر الإرادة المستقلة ، والحرية في تحديد المهام والتحديات الواجب مواجهتها، وبغياب عنصر الأهلية هذا، يسقط عنها عبء التكليف وواجب المسؤلية والمساءلة، فقد إحتفظت الدول الأعضاء في الجامعة بإرادة الفعل والتقرير لنفسها، وحرمت الجامعة من التفويض والإمكانيات اللازمة، وهذا موضوع يطول شرحه، وحتى القدر اليسير من هامش التحرك، المفترض إتاحته للجامعة، بحكم الضروره، فهو لم يترك لها، بل تتقاسمه عملياً، فئة كبار الموظفين فيها، المرتبطين مباشرة بدولهم، أكثر من إنتمائهم للمؤسسة التي يعملون فيها، وتتمثل هذه الفئة بالأمين العام والأمناء المساعدين، ومن في حكمهم من كبار الموظفين، المشرفين على القطاعات والمواقع الرئيسية، ولا يتجاوز عددهم العشرين شخصاً، من أصل ألف موظف ونيف، وتجدر الإشارة الى أن الأمانة العامة للجامعة، لا تختلف عن الدول الأعضاء، من حيث الموضوعية والشفافية والحكم الرشيد، وليس فيها نظام رقابي أوقضائي فاعل ونزيه، بل تخضع لنفس المؤثرات والظواهر الإدارية المعروفة في المنطقة، من مزاج فردي ومحسوبية ومصالح متبادلة وترضيات.

يعود الجزء الرئيسي من مشكلة الجامعة، الى تمسك دولة المقر بتعيين الأمين العام من مواطنيها، دون أي مقاييس موضوعية تتطلبها طبيعة المهمة الموكلة اليه، ودون إعطاء الدول الأعضاء، أي هامش للمفاضلة أو الإختيار أو الإعتراض، هذا على إفتراض أن لدى الدول الأخرى خيارات أفضل، وفي العادة يتولى الأمانة العامة وزير خارجية دولة المقرالمنتهية ولايته، وهو الحارس الأمين على مصالح دولته أولاً، مقابل ما توفره له من ترشيح وحصانة ودعم، وبعد ذلك فهو مفوض بتوزيع ما تبقى من المصالح والصلاحيات على الدول الأخرى، بالتنسيق مع مندوب دولته لدى الجامعة ووزير خارجيتها، ويتم ذلك وفقاً لعلاقات دولة المقر ومصالحها مع بقية الدول الأعضاء، وأحياناً، وفقاً لميزان القوى والتحالفات بين الدول، كما حصل أبان إنشغال مصر بأحداث الربيع العربي، فتولت دول الخليج الهيمنة على قرارات الجامعة لمصلحتها، وبشكل عام، تشكل آلية تعيين الأمين العام وطريقة عمله ومرجعيته الفعلية المتمثلة بدولته، أحد اسباب تآكل دور الجامعة، واستنزاف مفهوم العمل العربي المشترك، استدراكاً من باب الإنصاف، يخرج عن هذا التعميم، الاستاذ الشاذلي القليبي، الذي لم تكن لدولته تونس، الكثير من المصالح التي تستدعي الهيمنة على الجامعة، ففوض هذه الميزة، لجمهورية العراق ولمنظمة التحرير، لتعاطفه معهما، ويحسب للسيد عمرو موسى في سنواته الأولى، أنه حاول التجديد في هيكلية الأمانة العامة وأساليب عملها، وتدعيم شخصيتها وإستقلالها عن الدول، واستقلاله شخصياً عن نفوذ سلفه في وزارة الخارجية المصرية، دون التخلي عن إعطاء الأولوية للمصالح المصرية، كما يراها ، الّا انه عاد لاحقاً واستسلم للتقاليد العربية في ادارة الجامعة، وربما ذهب بعيداً في توظيفها لصالح البعض على حساب البعض الآخر، وذلك أثناء موجة الربيع العربي، وأحداث ليبيا بشكل خاص.

وفي السياق نفسه، يلعب كبار المساعدين حول الأمين العام، على إختلاف دولهم، الدور نفسه في إفراغ مفهوم العمل العربي المشترك من مضمونة، فوفقاً للنظام يتم تعينهم بناء على ترشيح من دولهم، بعد أن يكونوا قد خدموا فيها، وحان الوقت لمكافأتهم بمنصب دولي، فيه الكثير من الأمتيازات، وهو ما يفرض عليهم الإلتزام بتوجيهات وسياسات تلك الدول، في حدود الإ ختصاصات والصلاحيات الباقية لهم، بعد أن يقتطع الأمين العام، من صلاحيات لنفسه ومصالح لدولته، وفي العادة يتم توزيع هذه الفئة من المساعدين كمسؤولين عن القطاعات المختلفة، ويتمتعون في العادة بصلايات في حدودها، ويكون رئيس القطاع هو المرجع المباشر والوحيد لموظفيه، ويديرهم بصلاحيات واسعة، ويضمن ولائهم من خلال توزيع الإمتيازات وتقارير الكفاءة والترقيات، وهو ما يترتب علية، إخضاعهم من حيث الإختصاص، لتوجهات رئيسهم وسياسات الدولة التي ينتمي اليها، وتكون النتيجة، تقاسم السيادة على قطاعات الأمانة العامة وإخراجها من سياق العمل العربي المشترك، وتقبل الدول، الرئيسية منها على الأقل، قواعد هذه اللعبة، ما دامت القطاعات موزعة فيما بينها، وتتصارع على الأجزاء المشتركة، ويتم إسترضاء الدول الأعضاء الأقل أهمية، لصالح دولة المقر، ببعض الترضيات الوظيفية، داخل الأمانة العامة، لذوي السفير المندوب الدائم، أو وزير خارجيته، أو يتم إستقطاب موقفها من قبل أحدى الدول النافذة بمصالح بينية، بعيداً عن الجامعة.

لم تكتفي الدول الأعضاء بالدور الذي يقوم به كبار الموظفين من رعاياها، في تحريف العمل العربي المشترك، لمصلحتها المباشرة، بل تقوم بتعين سفير كمندوب دائم يمثلها لدى الأمانة العامة، ويعبر عن مواقفها في القضايا المطروحة، بما فيها الشؤون الإدارية والمالية، ويتم تمرير القضايا الخاصة، عادة بالتوافق، لصالح الدولة المعنية، مالم يكن لدولة المقر، أو لأحدى الدول الرئيسية المتنفذة مصلحة أخرى، فتكون الأولوية عادةً لرأي دولة المقر، التي يمثلها مندوبها الدائم، والأمين العام ومن يساعدة من مواطنيها، وذلك على حساب الدول الأضعف، ويحتاج الأمين العام أحياناً، لتمرير موقفه ومصلحة دولته، أن يقنع أو يضغط على الرأي المخالف، ويضطر أحياناً أن يشتري موافقة مندوب الدولة المعترضة أو سكوت من يمثلها من المساعدين في الأمانة العامة، بترقية أو تعيين أحد أقارب والمحسوبين، أو الوعد بتعيين السفير المندوب شخصياً، كأحد المساعدين، عند شغور أحد المناصب، ويقوم المندوب بدوره، بإقناع دولته، وتقوم بعض الدول الميسورة باستخدام إلتزاماتها المالية في ميزانية الجامعة لتمرير مواقفها، أودعم بعض الموظفين من رعاياها، والحصول على بعض المواقع الوظيفية الشاغرة، وهذا ما يسمح في كثير من الحالات بتوظيف أشخاص دون مراعاة الكفاءة والإلتزام، وعلى حساب غيرهم من الموظفين الأقدم من الدول الأضعف.

أخيراً تدرك معظم الدول العربية عبثية وجود الجامعة العربية، بدون إرادة ولا صلاحيات ولا إمكانيات، وتكتفي منها بالدورالشكلي المحدود الذي تقوم به ، وتستمر الدول في سياساتها الفردية او الثنائية، وفقاً لمصالحها وإمكانياتها، وهو ما ينتج في الغالب الضعف والفشل، فضلاً عن التنافس والتناحر، على حسابهم جميعاً، لصالح خصومهم الإفتراضيين وأعدائهم الحقيقيين، وفي الوقت ذاته، يستمر العرب في العضوية والمشاركة في الجامعة، من باب المجاملة وتجنباً للعزلة والإحراج، ويأتون الى الجامعة في المناسبات الدورية، كبيت للضيافة أو قاعة للمناسبات، كما يقال، وهنا يبدو جلياً الإنفصام في المواقف بين الحكومات وشعوبها، وكم هو مجحف القاء اللوم على الجامعة العربية وتحميلها مسؤولية القصور والتردي في الوضع العربي العام، بينما في الحقيقة، لا يخرج الأمر عن تقصير مقصود من حكوماتهم من جهة، أو حلقة مفقودة في إدراكهم لآلية عمل الجامعة من جهة أخرى.

[email protected]

رابط مختصر:
مقالات ذات الصلة

اترك رد