هكذا تقلبوا الصفحة ؛؛؛ د.عصمت حوسو – الأردن

0 191

 

العالم الان – الحياة كتاب، مخطوطٌ في صفحاته الأولى أسامينا وديننا وحسبنا ونسبنا، ولا علاقة لنا بذلك، ثم نبدأ رحلة العمر بكتابة أفعالنا وتجاربنا وخبراتنا المتراكمة المرّة منها والحلوة، كما نكتب فيه مصائرنا في الحياة وسمعتنا خلالها وما بعدها..

وفي كتاب الحياة قد تتمزّق بعض الصفحات، وتهترئ أخرى، وقد يكون كتابًا سميكًا زاخرًا أو بصفحات قليلة، وما يهمّ في هذا الكتاب هو الصفحات التي نطويها نحن ثم نقلبها بقرار منا وبأيدينا سواءً لقبحها أو لمرارها، المهم أننا ننتهي منها ونبدأ صفحة جديدة نخطّ فيها ما تعلمناه من دروس مما سبقها من صفحات، وعلينا ألاّ نكرّر الفحوى ولا نستخدم ذات الخطّ ولا حتى بإمكاننا استخدام القلم نفسه الذي رافقنا سابقًا، فقد يكون حبره قد بهت مع الوقت، وحتى لا تصبح صفحات كتاب حيواتنا مكرّرة ومتشابهة لا نكهة لها ولا طعم ولا رائحة، فتعيد ذاتها لا بين السطور فقط وإنما في كل صفحة من بداية كتابة تاريخ الحياة حتى نهايتها..

وفي كتاب حياتك من الضروري أن تعلم أنّ لسانك هو قلمك الذي يخطّ كلامك فإن صنته صانك، وأنّ يديك هي ما تخطّ صنيعة أفعالك محمودة كانت أم مذمومة؛ لأنّ مداده هو أخلاقك. وهي خبراتك التي تقلب صفحاتك سواء كانت فارغة أم حبلى، وما تبنيه في لحظة قد تحصده على مدار سنين عمرك، وربما صفحة واحدة بين دفتيّ كتابك تهدم ما بنيته في عمر، المهم هنا أن تعرف متى وكيف تقلب الصفحة وتمضي..

رحلة العمر قصيرة مهما طالت، وكتابك ما يعيش بعدك، فإما أن يخلدك بذكرى عطرة أو قد تكون عكرة، فهذا قرارك وما يخطّه مداد أقلام حياتك..

وبعد كل تجربة مهما بلغ مدى ألمها، اقلب الصفحة وابدأ عهدًا جديدًا وكأنك ولدت اليوم، وإياك أن تسمح للصفحة السابقة من كتاب حياتك أن تجمدك عندها وتحشرك في خانة اليأس وضمن فقرة الفشل، وإياك كذلك أن تقبل الكتابة على الهامش، وإنما ابقى في المتن واكتب مقدمة تجاربك ونهايتها بيدك بقرار منك وبوعي مطلق، وهناك احتمال أنّ البداية ليست بالضرورة أن تكون دومًا خيارك أنت، ولكن حتمًا قرار النهاية وتوقيتها وشكلها يكون حكمًا باختيارك أنت وأنت فقط..

الماضي قد فات وهو كالميت الذي لا يعود، المهم ما هو آتٍ، وكلما تقلب صفحة ثقيلة من حياتك رافق الصفحة الجديدة ببداية جديدة مختلفة تزخر بالخبرة من التي سبقتها، واعلم جيدًا بأن لا تاريخ صلاحية محدّد لانتهاء صفحة من كتاب حياتك، وإنما هي المواقف والصدمات وربما الفرحات من تفعل ذلك، فأنت من يضع تاريخ الصلاحية ونهاية المدّة لكل صفحة، وإنّ بداية كل صفحة عمرية جديدة تكون مصحوبة بناسها وأحداثها وتجاربها التي من المفروض أن تكون مختلفة عن سابقتها، وهنا على وجه الخصوص ينتحر الفشل على محراب الإرادة؛ إرادة العقل وإرادة كيمياء الحياة..

وبما أنّ كل مرحلة وكل صفحة جديدة تبدأ بناس وأشخاص جُدد، فانتبهوا أن تتمسّكوا من صفحات العمر السابقة بالأشخاص الذين حُفرَت على جيناتهم كلمة (العطاء) بالبنط العريض حتى وهم ينبضون وجعًا؛ لأنّ مثل هؤلاء فقط من يتقن “شعر” التواصل الإنساني، ومن يُجيد “حفريات” التعامل النفسي المريح، تلك النوعية من البشر من تستحقّ نقلها معكم في كل صفحة جديدة في كتاب حياتكم، وتمسّكوا بهم فهم عملة نادرة جدًا في رحلة الحياة..

وهذا لا يعني أننا نعيد تكرار أنفسنا مع ذات الناس، لا أبدًا، ولكن -ولكن هنا كبيرة جدًا- عطاء هؤلاء غير قابل للإنطفاء، ويتجدّد وقوده تلقائيًا مع كل لحظة ألم أو انكسار تواجهونها، وفي حين أنهم أكثر الناس حاجة لكلمة إطراء ورفع المعنويات، ومع ذلك هم من يتقنون أحجية رفع المعنويات ورسم البسمات واجتراح الفرحات من الآهات من القلوب البائسة، فيحفرون جدران الحزن السميكة بملعقة الحبّ ومغرفة العطاء، لذلك تمسكوا بهم بإحكام في جميع الصفحات ولا تقلبوا أيّ صفحة بائسة عليهم، فلا يستحقون منا سوى الوفاء والبقاء معنا على كل الصفحات، وإن خانهم التعبير في بعضها أو جانبهم الصواب في أخرى، وحتى إن أفلسوا من العطاء في بعض الأحيان؛ لأنّ عطاءهم ببساطة شديدة متجدّد ولا ينضب، فلا تختزلوهم ولا تقزّموهم كما لا تقلبوا الصفحة عليهم.
فمثل هذه النوعية من الناس هم الغطاء السميك الذي يقي المهموم من برد الحياة عندما تطوله عوامل التعرية من ضنك الخيبات، فتمسّكوا بهم جدًا وجدًا؛ لأنهم عملة نادرة، وهم من تستندون عليهم وتشدّون ظهوركم بهم في أيّ معركة تخوضونها من معارك الحياة وكدرها وأنتم مرفوعي الرأس، تمسكوا بهم جيدًا، فهم أهلٌ لذلك..

وأخيرًا نعود لنقول اقلب الصفحة مهما تكالبت عليك الهموم، وامشِ فوق الصعاب واطوِ صفحة الأمس، وابدأ من جديد مع بزوغ كل أول شعاع من شمس يوم جديد، ولا ترى الحياة بلونٍ واحد فسوادها ليس دائمًا، كما أنّ مصادفتك لإناس قلوبها سوداء لا يعني سواد الجميع، ولا تنقلوا معكم عند قلب الصفحة إلاّ من يستحقّ البقاء..
دائمًا وأبدًا لنا من هذا القول حديثٌ آخر وبقية…دمتم….
دة.عصمت حوسو

رابط مختصر:
مقالات ذات الصلة

اترك رد