العقد الاجتماعي وصحة التمثيل – غالب سعد – الأردن

0 327

العالم الآن – إرتبط مفهوم العقد الإجتماعي بعنوان الكتاب الذي ألفه الفيلسوف الفرنسي، جان جاك روسو، في عام (1762م)، وضمّنه رؤيته لتنظيم الحياة السياسية في المجتمع،وعلاقة الافراد في السلطة الحاكمة، بيد أن جذورهذه النظرية، ترجع الى مئآت السنين قبل ظهور الكتاب وصاحبه، وربما، تعود الى الفترة التي اكتشف فيها البشر حاجتهم للعيش المشترك وتنظيم العلاقة بينهم من حيث الحقوق والواجبات، وتوزيع الأدوار والموارد، لتحقيق العدالة والتعاون والأمان للجميع، بعد أن أرهقتهم حياة الفوضى البدائية، التي تحركها الدوافع الغريزية دون ضوابط، سوى القوة الذاتية لحل المشكلات ومواجهة المخاطر والتحديات، وهو ما يسمى قانون الغاب.

لقد ظهرت الإشارات المبكرة لتنظيم الشأن العام والحياة المشتركة للجماعات البشرية، في التراث اليوناني منذ القرن الرابع قبل الميلاد، عبر أفكار أفلاطون عن جمهوريته أومدينته الفاضلة، كما ظهرت منذ القرن الثاني قبل الميلاد في مدونات الديانة البوذية في آسيا وقوانين حمورابي في ما بين النهرين، ثم جاءت الرسالات السماوية الثلاث، اليهودية والمسيحية والاسلام، على التوالي، لتُقَدم الكثير من القواعد لتنظيم حياة البشر فيما بينهم، وتضيف قواعد أخرى بشأن علاقاتهم بخالقهم، وبحسابهم يوم القيامة، ويعتبر العلّامة العربي ابن خلدون المؤسس لعلم الإجتماع السياسي، حيث شكل كتابه المعروف بمقدمة ابن خلدون،عام ( 1377 م)، نموذجاً في وصف الحياة المشتركة للشعوب، ومسارات تطورها، دون الذهاب بعيداً في نقد أسس السلطة، وتطلب الأمرلأكثر من قرنين بعد كتاب المقدمة، حتى نضجت افكار النهضة في أوروبا، وبدأ الفلاسفة والمفكرون إثارة الجدل حول مصدر السلطة والسيادة وإعادة تنظيم الحياة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية بشكل جذري، وكان أحد هؤلاء، وليس أولهم، جان جاك روسو، الذي ظهر بين عامي ( 1712 – 1778م )، ولخص أفكاره وأفكار من سبقوه، في كتاب العقد الإجتماعي، والذي يعتبر من إرهاصات الثورة الفرنسية، التي إندلعت بعد عشرين عاما من وفاته، وشكلت حتى يومنا هذا، أحد أهم نماذج تنظيم الحياة السياسية وبناء الدولة الحديثة ونشر الديمقراطية بشكل عام.

تقوم فكرة العقد الإجتماعي على مبدأ، الشعب مصدر السلطات، بعد ان ساد الاعتقاد لفترات طويله، أن الآلهة هي مصدر السلطات وهي تفوضها لمن تشاء من رجال الدين او السياسة على ألأرض، اما الرعية فما عليها إلاّ السمع والطاعة وقبول ما يُعطى لها من الأدوار والصفات، ولكن بعد الثورة الفرنسية واستنساخ نموذجها في العالم، إنتشر مفهوم الديمقراطية التمثيلية كأساس لنظام الحكم، وأصبح من الثابت في وعي المجتمعات الحديثة، أنها صاحبة الولاية في حكم نفسها وفي إختيار من يدير شؤونها العامة، وأصبح من الثابت أيضاً، ان هذه المباديء وما يترتب عليها يتم تقنينها في منظومة متكاملة، تشمل الدستور والقوانين واللوائح والإجراءات، وتصبح المرجع الوحيد المشروع والمقبول لتنظيم الحُكم، لأنها تجسد الإرادة الشعبية، عَبر بناء مؤسسي وعمليات إنتخابية مباشرة او غير مباشرة، او تفويض او تكليف، يفضي لتمثيل تلك الإرادة بشكل سليم، شكلاً ومضموناً ولاتشوبه اية شائبة.

تجري على نطاق واسع في العالم، مراجعات لفكرة الديمقراطية التمثيلة، بعد ان خرجت قطاعات واسعة من الشعب الى الشوارع والساحات للتعبيرعن غضبها من أداء من تم إنتخابهم أو تفويضهم سواء لإدارة الشأن العام أو لوضع القوانين والقواعد الناظمة أو مراقبة تطبيقها، ويأخذ هذا الغضب أحياناً اشكالاً عنيفة تتجاوز حدود التعبير المشروع عن عدم الرضى أو الضغط من أجل الإصلاح والتطوير، وقد وصل فعلاً لدرجة الثورة في بعض البلدان، والإخلال بالإستقرار السياسي والإقتصادي والإجتماعي، وتهديد المكاسب الموجودة في البنية الأساسية والخدماتية في بلدان أخرى، ان إستمرار هذه الإحتجاجات، رغم وجود النظم الإنتخابية ومخرجاتها من مؤسسات وادوار تمثيلية وتنفيذية، يدل على أن الديمقراطية التمثيلية في مأزق حقيقي، يمكن تلخيصه بضحالة المضمون التمثيلي للعملية الإنتخابية وإقتصارها على إجراء شكلي ينهي دور المواطن في إدارة ومتابعة الشأن العام، بينما يتصرف من إنتخبهم او فوضهم في كل الأمور، بعيداً عن ارادته ومصالحه، وفي غياب الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، التي تحولت لواجهات عائلية او فئوية او مصالحية، لا تعمل إلاّ في المواسم والمناسبات، بدل ان تلعب دور الوسيط بين الناخب والسلطات التشريعية والتنفيذية، يزداد المأزق السياسي حدةً، وتصبح الديمقراطية التمثيلية، عدوة نفسها، وتحتاج لمراجعة جذرية قبل فوات الأوان.

إذا كانت الديمقراطية التمثيلية بصيغتها ومخرجاتها الحالية لم تعد تفي بالغرض، وليس من الحكمة الإستسلام للجمود او الإنزلاق نحو الفوضى، فما هو المخرج إذاً ؟؟ قبل كل شيء، لا بد من إمتلاك الشجاعة لمراجعة ديمقراطيتنا التمثيلية، والاستعداد لسد ثغراتها وتطويرها الى ديمقراطية تشاركية، تعبر عن إرادة ومصلحة الناخب وتحقق صحة التمثيل، أي أن يحتفظ المواطن بحقه السيادي في الإختيار والتقرير قبل وأثناء وبعد العملية الإنتخابية، وان يبقى على تواصل دائم مع إرادته الحرة الفاعلة، فمن باب المراجعة، يجب التأكد من أن ضوابط الترشيح والإنتخاب والتكليف وتطبيقاتها على الأرض، سليمة تماماً وتجرى وفقاً للمصلحة العامة، وتفرز أفضل الممثلين وأكفأ التنفيذيين للقيام بمتطلباتها، وبعد الأنتخابات، وعلى إمتداد فترة التفويض النيابي، يجب التأكد من وعي الناخبين بواجبات النواب والمسؤولين، وهل لدى الناخبين الإستعداد لمتابعتهم ومساعدتهم على الإنجاز، أوتوجيههم ومحاسبتهم على الإهمال والتقصير والانحراف، بالطرق القانونية طبعاً، وهل يمكن للناخب المساهمة في طرح الحلول والمبادرات الشعبية والتطوعية، وبالتالي المساهمة في تطوير نُخَب مدنية محلية فاعلة، في كل مكان وكل مجال.

يبقى السؤال، هل يستطيع المواطن أو الناخب ممارسة هذا الدور، وهل يملك الآليات المناسبة لذلك، وإذا كان لا يستطيع منفرداً متابعة أو مواجهة قصور وتقصير من هم اقوى منه وأكثر خبرة وتنظيماً، إلا من خلال الشوارع والساحات، أليس من جهة، حريصة غيورة تساعده في تشكيل الأطر القانونية المناسبة، اوالإستفادة فعلاً من الأطر القائمة، من محليات وأحزاب وبلديات ونقابات وجمعيات، لممارسة حقه والقيام بواجبه على أكمل وجه، هل يمكن التركيز على تجربة اللامركزية والمحليات لتُشَكل قناة تواصل حقيقية بين المركز والأطراف، هل يمكن ان تساهم الدولة في إخراج البنية الحزبية من مأزقها والقيام بدورها المفترض، هل يمكن التوسع في دور المجلس الإقتصادي والإجتماعي، أو تعميم تجربة المجالس المتخصصة وتنسيقها مع تجربة النقابات والجمعيات المهنية، هل يمكن إيجاد آلية وطنية لمتابعة وتقييم ألأداء وترتيب نتائج على الإنجاز والتقصير، هل من شك بأن مثل هذه الإجراءات، لو حصلت، ستخفف من الإحتقان والإحساس بالعزلة والتهميش، وتقوي شعور المواطنين بالشفافية والمسؤولية والمشاركة والثقة بالحاضر والمستقبل،

تبقى هذه الأسئلة مفتوحة ومطروحة على الجميع، لأن المشكلة في جوهرها أعمق مما تظهر في الشارع أحياناً، ولا يكفي أن تكون الحلول بالأدوات الأمنية، كما حصل في كثير من البلدان، إلاّ أن مسؤولية الدولة تسبق غيرها، بما لديها من قدرة على الفعل والتأثير، من خلال أجهزتها الرقابية والمحاسبية والقضائية، وإداراتها المتخصصة في مجالات، التربية والثقافة والاعلام والتنمية السياسية وغيرها، وهي الحارس المفترض والمؤتمن على المصلحة العامة وعلى مستقبل البلاد والعباد، وعلى مستقبلها اولا وأخيراً.

رابط مختصر:
مقالات ذات الصلة

اترك رد